سورة النساء - تفسير تفسير الزمخشري

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)}
{ياأيها الناس} يا بني آدم {خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة} فرعكم من أصل واحد وهو نفس آدم أبيكم.
فإن قلت: علام عطف قوله: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما أن يعطف على محذوف، كأنه قيل: من نفس واحدة أنشأها أو ابتدأها، وخلق منها زوجها. وإنما حذف لدلالة المعنى عليه. والمعنى: شعبكم من نفس واحدة هذه صفتها، وهي أنه أنشأها من تراب وخلق زوجها حواء من ضلع من أضلاعها {وَبَثَّ مِنْهُمَا} نوعي جنس الإنس وهما الذكور والإناث، فوصفها بصفة هي بيان وتفصيل بكيفية خلقهم منها.
والثاني: أن يعطف على خلقكم، ويكون الخطاب في {ياأيها الناس} للذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمعنى: خلقكم من نفس آدم، لأنهم من جملة الجنس المفرع منه، وخلق منها أمكم حواء وبث منهما {رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} غيركم من الأمم الفائتة للحصر.
فإن قلت: الذي يقتضيه سداد نظم الكلام وجزالته أن يجاء عقيب الأمر بالتقوى بما يوجبها أو يدعو إليها ويبحث عليها، فكيف كان خلقه إياهم من نفس واحدة على التفصيل الذي ذكره موجباً للتقوى وداعياً إليها؟ قلت: لأنّ ذلك مما يدل على القدرة العظيمة. ومن قدر على نحوه كان قادراً على كل شيء، ومن المقدورات عقاب العصاة، فالنظر فيه يؤدي إلى أن يتقي القادر عليه ويخشى عقابه، ولأنَّه يدل على النعمة السابغة عليهم، فحقهم أن يتقوه في كفرانها والتفريط فيما يلزمهم من القيام بشكرها. أو أراد بالتقوى تقوى خاصة وهي أن يتقوه فيما يتصل بحفظ الحقوق بينهم، فلا يقطعوا ما يجب عليهم وصله، فقيل: اتقوا ربكم الذي وصل بينكم، حيث جعلكم صنوانا مفرعة من أرومة واحدة. فيما يجب على بعضكم لبعض، فحافظوا عليه ولا تغفلوا عنه. وهذا المعنى مطابق لمعاني السورة. وقرئ: {وخالق منها زوجها. وباث منهما}، بلفظ اسم الفاعل، وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره: وهو خالق {تَسَاءلُونَ بِهِ} تتساءلون به، فأدغمت التاء في السين. وقرئ {تساءلون} بطرح التاء الثانية، أي يسأل بعضكم بعضاً بالله وبالرحم. فيقول: بالله وبالرحم أفعل كذا على سبيل الاستعطاف. وأناشدك الله والرحم. أو تسألون غيركم بالله والرحم، فقيل (تفاعلون) موضع (تفعلون) للجمع، كقولك: رأيت الهلال وتراءيناه. وتنصره قراءة من قرأ: {تسلون به}. مهموز أو غير مهموز. وقرئ {والأرحام} بالحركات الثلاث، فالنصب على وجهين: إما على: واتقوا الله والأرحام، أو أن يعطف على محل الجار والمجرور، كقولك: مررت بزيد وعمراً. وينصره قراءة ابن مسعود: {تسألون به وبالأرحام}، والجر على عطف الظاهر على المضمر، وليس بسديد؛ لأنّ الضمير المتصل متصل كاسمه، والجار والمجرور كشيء واحد، فكانا في قولك: (مررت به وزيد) و(هذا غلامه وزيد) شديدي الاتصال، فلما اشتد الاتصال لتكرره أشبه العطف على بعض الكلمة، فلم يجز ووجب تكرير العامل، كقولك: (مررت به وبزيد) و(هذا غلامه وغلام زيد) ألا ترى إلى صحة قولك: (رأيتك وزيداً) و(مررت بزيد وعمرو) لما لم يقو الاتصال، لأنه لم يتكرر، وقد تمحل لصحة هذه القراءة بأنها على تقدير تكرير الجار ونظيرها.
فاذهب فَمَا بِكَ وَالأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ ***
والرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف، كأنه قيل: والأرحام كذلك، على معنى: والأرحام مما يتقى أو والأرحام مما يُسَاءل به. والمعنى أنهم كانوا يقرون بأن لهم خالقاً، وكانوا يتساءلون بذكر الله والرحم، فقيل لهم: اتقوا الله الذي خلقكم، واتقوا الذي تتناشدون به واتقوا الأرحام فلا تقطعوها. أو واتقوا الله الذي تتعاطفون بأذكاره وبأذكار الرحم. وقد آذن عز وجل إذ قرن الأرحام باسمه أن صلتها منه بمكان، كما قال: {أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه وبالوالدين إحسانا} [الإسراء: 23]، وعن الحسن: إذا سألك بالله فأعطه، وإذا سألك بالرحم فأعطه. وللرحم حجنة عند العرش، ومعناه ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه: الرحم معلقة بالعرش فإذا أتاها الواصل بشت به وكلمته. وإذا أتاها القاطع احتجبت منه. وسئل ابن عيينة عن قوله عليه الصلاة والسلام: «تخيروا لنطفكم»
فقال: يقول لأولادكم وذلك أن يضع ولده في الحلال. ألم تسمع قوله تعالى: {واتقوا الله الذى تَسَاءلُونَ بِهِ والارحام} وأول صلته أن يختار له الموضع الحلال، فلا يقطع رحمه ولا نسبه فإنما للعاهر الحجر، ثم يختار الصحة ويجتنب الدَّعر، ولا يضعه موضع سوء يتبع شهوته وهواه بغير هدى من الله.


{وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)}
{اليتامى} الذين مات آباؤهم فانفردوا عنهم. واليتم الانفراد. ومنه: الرملة اليتيمة والدرّة اليتيمة. وقيل: اليتم في الأناسي من قبل الآباء. وفي البهائم من قبل الأمهات.
فإن قلت: كيف جمع اليتيم وهو فعيل كمريض على يتامى؟ قلت: فيه وجهان: أن يجمع على يتمى كأسرى، لأنّ اليتم من وادي الآفات والأوجاع، ثم يجمع فعلى على فعالى كأسارى. ويجوز أن يجمع على فعائل لجري اليتم مجرى الأسماء، نحو صاحب وفارس، فيقال: يتائم، ثم يتامى على القلب. وحق هذا الاسم أن يقع على الصغار والكبار لبقاء معنى الانفراد عن الآباء، إلا أنه قد غلب أن يسموا به قبل أن يبلغوا مبلغ الرجال، فإذا استغنوا بأنفسهم عن كافل وقائم عليهم وانتصبوا كفاة يكفلون غيرهم ويقومون عليهم، زال عنهم هذا الاسم، وكانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يتيم أبي طالب، إمّا على القياس وإما حكاية للحال التي كان عليها صغيراً ناشئاً في حجر عمه توضيعاً له. وأمّا قوله عليه السلام: «لا يتم بعد الحلم»
فما هو إلا تعليم شريعة لا لغة، يعني أنه إذا احتلم لم تجر عليه أحكام الصغار.
فإن قلت: فما معنى قوله: {وَءاتُواْ اليتامى أموالهم}؟ قلت: إما أن يراد باليتامى الصغار، وبإتيانهم الأموال: أن لا يطمع فيها الأولياء والأوصياء وولاة السوء وقضاته ويكفوا عنها أيديهم الخاطفة، حتى تأتي اليتامى إذا بلغوا سالمة غير محذوفة. وإمّا أن يراد الكبار تسمية لهم يتامى على القياس، أو لقرب عهدهم إذا بلغوا بالصغر، كما تسمى الناقة عشراء بعد وضعها. على أنّ فيه إشارة إلى أن لا يؤخر دفع أموالهم إليهم عن حد البلوغ، ولا يمطلوا إن أونس منهم الرشد، وأن يؤتوها قبل أن يزول عنهم اسم اليتامى والصغار.
وقيل: هي في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ طلب المال فمنعه عمه فترافعا إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فنزلت، فلما سمعها العمُّ قال: أطعنا الله وأطعنا الرسول، نعوذ بالله من الحوب الكبير، فدفع ماله إليه؛ فقال النبي عليه السلام: «ومن يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنه يحل داره. يعني جنته فلما قبض ألفوا ماله أنفقه في سبيل الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ثبت الأجر، ثبت الأجر وبقي الوزر، قالوا: يا رسول الله، قد عرفنا أنه ثبت الأجر كيف بقي الوزر وهو ينفق في سبيل الله؟ فقال: ثبت أجر الغلام، وبقي الوزر على والده».
{وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب} ولا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم وما أبيح لكم من المكاسب ورزق الله المبثوث في الأرض فتأكلوه مكانه.
أو لا تستبدلوا الأمر الخبيث وهو اختزال أموال اليتامى بالأمر الطيب وهو حفظها والتورع منها والتفعل بمعنى الاستفعال غير عزيز. منه التعجل بمعنى الاستعجال، والتأخر بمعنى الاستئخار. قال ذو الرمّة:
فَيَا كَرَمَ السَّكْنِ الَّذِينَ تَحَمَّلُوا *** عَنِ الدَّارِ وَالْمُسْتَخْلَفِ الْمُتَبَدَّلِ
أراد: ويا لؤم ما استخلفته الدال واستبدلته. وقيل: هو أن يعطي رديئاً ويأخذ جيداً.
وعن السدي: أن يجعل شاة مهزولة مكان سمينة، وهذا ليس بتبدل، وإنما هو تبديل إلا أن يكارم صديقاً له فيأخذ منه عجفاء مكان سمينة من مال الصبي {وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم} ولا تنفقوها معها. وحقيقتها: ولا تضموها إليها في الإنفاق، حتى لا تفرقوا بين أموالكم وأموالهم قلة مبالاة بما لا يحل لكم. وتسوية بينه وبين الحلال.
فإن قلت: قد حرم عليهم أكل مال اليتامى وحده ومع أموالهم، فلمَ ورد النهي عن أكله؟ معها قلت: لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من مال حلال وهم على ذلك يطمعون فيها كان القبح أبلغ والذم أحق ولأنهم كانوا يفعلون كذلك قنعى عليهم فعلهم وَسَمّع َبهم، ليكون أزجر لهم. والحوب: الذنب العظيم. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «إن طلاق أم أيوب لحوب» فكأنه قيل: إنه كان ذنباً كبيراً.
وقرأ الحسن {حوبا} بفتح الحاء وهو مصدر حاب حوبا. وقرئ: {حابا}. ونظير الحوب والحاب: القول والقال. والطرد والطرد.


{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)}
ولمَّا نزلت الآية في اليتامى وما في أكل أموالهم من الحوب الكبير، خاف الأولياء أن يلحقهم الحوب بترك الإقساط في حقوق اليتامى، وأخذوا يتحرّجون من ولايتهم، وكان الرجل منهم ربما كان تحته العشر من الأزواج والثمان والست فلا يقوم بحقوقهنّ ولا يعدل بينهن، فقيل لهم: إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرّجتم منها، فخافوا أيضاً ترك العدل بين النساء فقللوا عدد المنكوحات، لأنّ من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب مثله فهو غير متحرّج ولا تائب، لأنه إنما وجب أن يُتحرج من الذنب ويُتاب منه لقبحه، والقبح قائم في كل ذنب، وقيل: كانوا لا يتحرّجون من الزنا وهم يتحرّجون من ولاية اليتامى، فقيل: إن خفتم الجور في حق اليتامى فخافوا الزنا. فانكحوا ما حلّ لكم من النساء، ولا تحوموا حول المحرّمات. وقيل: كان الرجل يجد اليتيمة لها مال وجمال أو يكون وليها، فيتزوجها ضناً بها عن غيره، فربما اجتعمت عنده عشر منهن، فيخاف- لضعفهن وفقد من يغضب لهن- أن يظلمهنّ حقوقهن ويفرط فيما يجب لهنَّ، فقيل لهم: إن خفتم أن لا تقسطوا في يتامى النساء فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم. ويقال للإناث اليتامى كما يقال للذكور، وهو جمع يتيمة على القلب، كما قيل: أيامى، والأصل: أيائم ويتائم.
وقرأ النخعي {تقسطوا} بفتح التاء على أن لا مزيدة مثلها في {لّئَلاَّ يَعْلَمَ} [الحديد: 29] يريد: وإن خفتم أن تجوروا {مَا طَابَ} ما حلّ {لَكُمْ مّنَ النساء} لأنّ منهن ما حرم كاللاتي في آية التحريم. وقيل: (ما) ذهاباً إلى الصفة. ولأن الإناث من العقلاء يجرين مجرى غير العقلاء: ومنه قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم} {مثنى وثلاث وَرُبَاعَ} معدولة عن أعداد مكررة، وإنما منعت الصرف لما فيها من العدلين: عدلها عن صيغها، وعدلها عن تكررها، وهي نكرات يعرّفن بلام التعريف. تقول: فلان ينكح المثنى والثلاث والرباع، ومحلهن النصب على الحال مما طاب، تقديره: فانكحوا الطيبات لكم معدودات هذا العدد، ثنتين ثنتين، وثلاثاً ثلاثاً، وأربعاً أربعاً.
فإن قلت: الذي أطلق للناكح في الجمع أن يجمع بين ثنتين أو ثلاث أو أربع، فما معنى التكرير في مثنى وثلاث ورباع؟
(قلت): الخطاب للجميع، فوجب التكرير ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد الذي أطلق له، كما تقول للجماعة: اقتسموا هذا المال- وهو ألف درهم- درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة. ولو أفردت لم يكن له معنى.
فإن قلت: فلم جاء العطف بالواو دون أو؟ قلت: كما جاء بالواو في المثال الذي حذوته لك. ولو ذهبت تقول: اقتسموا هذا المال درهمين درهمين، أو ثلاثة ثلاثة، أو أربعة أربعة: أعلمت أنه لا يسوغ لهم أن يقتسموه إلا على أحد أنواع هذه القسمة، وليس لهم أن يجمعوا بينها فيجعلوا بعض القسم على تثنية، وبعضه على تثليث، وبعضه على تربيع.
وذهب معنى تجويز الجمع بين أنواع القسمة الذي دلت عليه الواو. وتحريره: أنّ الواو دلت على إطلاق أن يأخذ الناكحون من أرادوا نكاحها من النساء على طريق الجمع، إن شاؤوا مختلفين في تلك الأعداد، وإن شاؤوا متفقين فيها، محظوراً عليهم ما وراء ذلك.
وقرأ إبراهيم: وثلث وربع، على القصر من ثلاث ورباع {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ} بين هذه الأعداد كما خفتم ترك العدل فيما فوقها {فواحدة} فالزموا: أو فاختاروا واحدة وذروا الجمع رأساً. فإن الأمر كله يدور مع العدل، فأينما وجدتم العدل فعليكم به. وقرئ {فواحدةٌ} بالرفع على: فالمقنع واحدة، أو فكفت واحدة، أو فحسبكم واحدة {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم} سوّى في السُّهولة واليسر بين الحرة الواحدة وبين الإماء، من غير حصر ولا توقيت عدد. ولعمري أنهنّ أقل تبعة وأقصر شغباً وأخف مؤنة من المهائر، لا عليك أكثرت منهن أم أقللت، عدلت بينهن في القسم أم لم تعدل، عزلت عنهن أم لم تعزل.
وقرأ ابن أبي عبلة. {من ملكت} {ذلك} إشارة إلى اختيار الواحدة والتسري {أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ} أقرب من أن لا تميلوا، من قولهم: عال الميزان عولاً، إذا مال. وميزان فلان عائل، وعال الحاكم في حكمه إذا جار. وروى أن أعرابياً حكم عليه حاكم فقال له: أتعول عليّ. وقد روت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا تعولوا: أن لا تجوروا» والذي يحكى عن الشافعي رحمه الله أنه فسر (أن لا تعولوا) أن لا تكثر عيالكم. فوجهه أن يجعل من قولك: عال الرجل عياله يعولهم، كقولهم: مانهم يمونهم، إذا أنفق عليهم، لأنّ من كثر عياله لزمه أن يعولهم، وفي ذلك ما يصعب عليه المحافظة على حدود الكسب وحدود الورع وكسب الحلال والرزق الطيب. وكلام مثله من أعلام العلم وأئمة الشرع ورؤوس المجتهدين، حقيقي بالحمل على الصحة والسداد، وأن لا يظنّ به تحريف تعيلوا إلى تعولوا، فقد روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تظنن بكلمة خرجت من فِي أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً. وكفى بكتابنا المترجم بكتاب (شافي العيِّ، من كلام الشافعي) شاهداً بأنه كان أعلى كعباً وأطول باعاً في علم كلام العرب، من أن يخفى عليه مثل هذا، ولكن للعلماء طرقاً وأساليب. فسلك في تفسير هذه الكلمة طريقة الكنايات.
فإن قلت: كيف يقل عيال من تسرى، وفي السرائر نحو ما في المهائر؟ قلت: ليس كذلك، لأن الغرض بالتزوّج التوالد والتناسل بخلاف التسري، ولذلك جاز العزل عن السراري بغير أذنهن، فكان التسري مظنة لقلة الولد بالإضافة إلى التزوج، كتزوّج الواحدة بالإضافة إلى تزوج الأربع.
وقرأ طاوس: {أن لا تعيلوا}، من أعال الرجل إذا كثر عياله. وهذه القراءة تعضد تفسير الشافعي رحمه الله من حيث المعنى الذي قصده.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8